أمسية فيروزية عبلينيّة يُحييها البروفيسور تيسير إلياس!
آمال عوّاد رضوان
لجنةُ الثقافةِ في المجلسِ المِليّ الأرثوذكسيّ-عبلين نظّمتْ أمسيةً موسيقيّةً مميّزةً وراقيةً، بعنوان "فيروز أيقونة الشرق" للبروفيسور تيسير إلياس، وذلك بتاريخ 30-11-2018، في قاعةِ كنيسةِ القدّيس جوارجيوس الأرثوذكسيّة في عبلين، ووسط حضور كبيرٍ مِن المُثقّفينَ وعشّاق فيروز والفنّ، وقد رحّبَ السيّد إبراهيم حبيب بالحضور، وأشادَ بنهضةِ عبلين الثقافيّة في السّنواتِ الأخيرةِ، وأثنى على فعاليّاتِ ونشاطاتِ مؤسّساتِها البنّاءةِ، والتّعاون بينَ الأطر ومؤسّساتِ المجتمعِ المَدنيّ (الجمعيّات)، كرَدّ فعلٍ على العنفِ المُستشري في مجتمعاتِنا، ووقفَ الحضورُ دقيقةَ حدادٍ وصمتٍ على أرواح ضحايا العنف، وآخرهم الطفلة يارا أيوب، ثمّ بارك الكهنةُ الندوةَ بصلاةٍ قصيرةٍ، وكانتْ كلمةٌ أدبيّة فيروزيّة للأديب زهير دعيم، ثمّ وبصوته الهادئ ووجهه البشوش السموح، قدّم البروفيسور تيسير إلياس محاضرةً شيقةً تتراوح ما بين الكلمة والنغمة، لتنتهي على أنغام أغنیة "روح زورھن" وتهيئة لاستقبال الميلاد المجيد، ولتمضي المحاضرةُ الفيروزيّة بسرعة عِشقنا الفيروزيّ، كم كنّا نتمنّاها تطول.
مداخلة الأديب زهير دعيم بعنوان فيروز زنبقة الأودية:
ثلاث وثمانون لؤلؤة وجمانة وزَبرجدة أشكّها عِقدًا جميلًا، وأزفّه إلى هناك إلى بيروتَ لجارةِ القمر فيروز، ليُزيِّنَ جِيدَها الجميلَ بعيدِ ميلادِها الثالث والثمانين. كيف لا أفعلُ ذلك، ولها في نفسي مكانةٌ خاصّة، راقية عابقةٌ بشذا الأيامِ؟ كيف لا أفعلُ ذلك، وهي قصيدةُ الفنِّ الأجمل والأحلى على شُرفاتِ الصّباحِ والظهيرةِ والمساء؟ كيف لا أفعلُ ذلك، وصوتُها العذبُ المتهادي الرقراق المتعانق بشغَفٍ غريبٍ مع موسيقى الرّحابنة، يسرقُني من ذاتي بعيدًا، لأجدَ نفسي هائمًا ما بين الارضِ والسّماء؟ كيف لا أفعلُ ذلك، ووقعُ كلماتِها الأثيريِّ يتحدّى الريحَ الحَرونَ والعواصفَ العاتية؟ فكلُّ أغنيةٍ من أغانيها درّةٌ يتيمة، تدخلُ القلوبَ دونما استئذان، فتفعلُ فعل الخمرةِ الجيّدةِ في النفوسِ العطشى، وتلوّنُ الحنايا والثنايا والضّمائرَ بالمحبّة .
تضايقْتُ يومًا من أحد أبنائي الثلاثة، حينما صرّح لي قبل سنواتٍ أنّه لا يستعذبُ فيروزَتنا كثيرًا، وأنّ هناك مَن تبزُّها، فقلتُ وقتها له: ما زِلْتَ يا صغيري فجًّا، حتّى ولو تبوّأتَ أعلى المراتب، إلى أن عاد يومًا إلى رُشدِه، وبات يترنّحُ على الصوتِ الكريستاليّ الآتي من فوق من لدن السّماءِ، فصرخْتُ وقلْتُ له: مرحى.. لقد نضجْتَ، ونضجَ فيكَ الذوقُ وبات مُرهفًا يعرفُ النشوةَ ويتذوّقُها.
حقيقة، فلبنان ومع كلِّ مواكبِ مُبدعيه العِظام الكُثُر، يبقى دونكِ ولولاكِ يتيمًا، لاجئًا مُشرّدًا، عذرًا جبران وعقل والصّافي والصّبوحة والرّومي و..، ففيروزُ أعطته اللونَ الجميل، وسبغت عليه المجدَ والعِزّ، وكتبت حروفَه بماء الذَهب. فيروزُ الراهبةُ الجميلةُ في محرابِ الفنّ الأصيل أطربْتِ دُنيانا. فيروزُ الصامتةُ ترفع قلبَها قبل صوتِها، وتسجدُ عند أقدامِ الإلهِ مُترنّمةً خاشعةً، فتغنّي المصلوبَ والقدسَ، والأوطانَ والحنينَ ومواكبَ الأيّام.. تُطربُ أرواحَنا. فيروز الصّبيّةُ التي لا تعرفُ الثرثرةَ، ولا تعشق- شوفوني يا ناس- ولا تهوى التباهي، تحظى باحترامِ كلِّ مَن غرّدَ وشدا ولحّنَ واستمع. فيروز بحياتها الفنيّةِ العطرة، وحياتِها الخاصّةِ تُضفي على روايةِ عمرِها بِسرٍّ جميلٍ غامض، يحاولُ الكلُّ ان يستكشفَه ولكن هيهاتِ!
كثيرًا ما تساءلْتُ بيني وبين نفسي: ماذا تفعلُ هذه الفيروزة في هذه الأيام؟ ماذا تُحبّ من الأطعمةِ والاشربة؟ لِمَن تسمعُ في الصّباحاتِ والأماسي؟ أتُراها تنامُ وتصحو مثلي على صوتِ فيروز؟ لسْتُ أدري، ولكنني أدري أنّها في القلبِ والوجدانِ زنبقةٌ لا ولن تعرفَ الذبولَ، ولو أضحت مائتين من السّنين، وسيبقى شذاها يُعمِّد الشّرقَ بأريجِه وفوْحِ عطرِه. فيروز جارةُ القمرِ والرّيح، وزنبقةُ الاوديةِ ونرجسةُ التّلال: دُمْتِ بخيرٍ والعُقبى للمائةِ بعد العشرين، والصّحّةُ تُظللكِ كما السّعادةِ وهدأةِ البالِ والإيمانِ والتقوى. فيروز كلُّ عامٍ وأنتِ محبوبتُنا.
في الحادي عشر من تشرين الثاني سنة 2011، وقف معنا هنا البروفيسور الفاضل تيسير إلياس؛ وقف هذه الوقفةَ الجميلةَ في ندوةٍ ما زال صداها يرنُّ في آذاننا، كانت بعنوان: "عبد الوهاب بين التقليدِ والتجديد"، واليوم البروفيسور تيسير إلياس، والحائز على جائزة أفضل محاضر في جامعة حيفا لعام 2017، يُطِلُّ علينا من نافذةٍ جميلة جديدة من نوافذ فنِّنا العربيّ الأصيل، من خلال أيقونة الشرق وجارة القمر فيروز. كم نحن مدينون لهذا الفنّان الإنسان والجميل تيسير إلياس، هذا الفنّان الذي ملأ الأرجاءَ فنًّا وطربًا أصيلًا وعطاءً لا ينضب.
مداخلة البروفيسور تيسير إلياس:
فیروز أيقونة الفنّ وسیمفونیّة الحیاة، جارة القمر، وسفیرتنا إلى النجوم، والصوت الملائكيّ وسماع أغنیة "یا طیر":
الموسیقى في الفلسفة الیونانیة: صنّف الفلاسفة الیونانیون الموسیقى لثلاث فئات رئیسیة:
MUSICA INSTRUMENTALIS •
MUSICA HUMAMA •
MONDANA MUSICA • أو ما یدعى Musica Universalis، وهذه الفئة الثالثة ھي التي تھمّني في إطار محاضرتِنا عن السيّدة العظیمة فیروز.
MUSICA MONDAND•: ھي الموسیقى السماويّة السامیة السرمديّة الكائنةُ بين النجوم والأفلاك، والناجمةُ عن وجود التساوق والانسجام الھارمونيّ الكامل المثاليّ، بین ھذه الأجرام السماويّة، والتي تنتج "النسبة الشریفة الفاضلة" و"الجوھر الأسمى". ھذه الموسیقى السماويّة لا یمكن للإنسان العاديّ أن یسمعها، وبإمكان الملائكة فقط الاستماع إلیھا والاستمتاع بھا.
• فیروز: الصوت الملائكيّ! فیروز: سفیرتنا إلى النجوم! فیروز: جارة القمر!
أعتقد الآن أنّ سببَ إطلاق ھذه الألقاب على فیروز أصبح واضحًا تمامًا، فقد حلّقتْ فيروز في الأعالي بین النجوم، وجاورت القمر، ونھلت من الأنغام الملائكیّة، وارتشفت من الجوھر الأسمى، فشنّفتْ آذانَنا وسحرتنا بصوتِها المخمليّ الشفاف، وصدح ھذا الصوتُ الملائكيّ للملاك السماويّ الذي بشّرنا بالمجدِ العظیم. ونستمع إلى ترتيلة (إنَ الملاك تفوّه).
• وكما قال عنھا الموسیقار العظیم محمد عبد الوھاب: "نحن لا نتحدث عن الأصوات الأرضیّة، إنما عن صوت قادم من السماء"، فهي موھبة فنیة خارقة، صوت متقنٌ ومتقِن، حسّاس ومُعبّر، صوت عظیم ساحر شفاف، فیه بعضُ السذاجة والعفویة المقصودة، وھو صوتٌ قادر یستطیع الغوص إلى أعماق التفاصيل الصغيرة، یُجید إتقان الألفاظ ومخارج الحروف بوضوح لا مثيل له.
• نبذة مقتضبة عن حیاة فیروز: رغم كون فيروز كالنسور محلقة دائمًا، ولا تعرفُ إلّا القمم، فقد بدأت حیاتَھا من الأرض، ومن واقع وبیئة بسیطة ساذجةٍ، فقد وُلدت نھاد حداد بتاریخ 21 نوفمبر 1935 لأسرة فقیرة، في حيّ زقاق البلاط في ضواحي بیروت، حیث كان والدھا ودیع حداد أجیرًا في مطبعة، وكانت أمّها ليزا البستاني تتشارك مع جیرانھا بأدوات المطبخ، في بیت یتألف من غرفة واحدة، ولم یكن بحوزة العائلة جھاز مذیاع، فكانت نھاد الفتاة المتواضعة والخجولة، تسترقُ السمع لصوته الساحر الذي يحمل لأذنَیْھا المرھفتیْن غناء أم كلثوم، وعبد الوھاب، وأسمھان، وآخرین من أساطین النغم العربيّ.
كانت نھاد معروفة بحبّھا للزھور، فقد كانت تَمضي جُلّ وقتِھا بجمع الزھور البریّة، تُنسّقھا في باقات لتزیّن البيت بھا، ولكن لم یكن ینافس حبّھا الكبیر للزھور سوى حبّها لجدتها، حیث كانت تقضي إجازاتھا الصیفیّة في بيت جدتها في ضیعة الدببة في الشوف، ممّا جعلها ترتبط فكریًّا بحياة الريف، وتتعلق عاطفیًّا بجدّتها، وقد منحھا ذلك مساحة شاسعة من التنفس في الطبیعة الساحرة الخلابة، وخلق بینَھا وبین الارض والطبیعة نوعًا من المشاركة الوجدانیّة العمیقة والصادقة، بعیدًا عن صخب وضوضاء المدینة، فصدحت بباقة من الأغنیات الجمیلة لجدتھا الحبیبة: ونستمع إلى أغنية بیتك یا ستي الختیارة لجدتها:
•2 ستي یا ستي :
• في حفلة المدرسة عام 1946، سمعھا الأستاذ القدیر (محمد فلیفل) الذي كان مُعیدًا آنذاك في في المعھد الموسیقيّ اللبنانيّ، والذي كان یبحث عن مواھب جدیدة آنذاك في إطار المدارس، لغناء الأناشید الوطنیّة في الإذاعة اللبنانیّة حدیثة العھد. لكن والد نھاد الذي ینتمي إلى بیئة محافظة، لم یستسغ فكرة غناء نھاد وظھورھا أمام الناس، ولكن بعد نقاش طویل أذعن لإلحاح فلیفل، حیث إنّ نھاد سوف تشارك في غناء الأغاني الوطنیة فقط، وإنّ فلیفل سوف یتحمّل نفقات تعلیمھا في المعھد الموسیقيّ، كما واشترط والد نھاد أن یرافقھا أخوھا جوزیف.
• درست نھاد في المعھد الموسیقيّ مدة أربع سنوات، بعدئذ، ساعدھا فلیفل في المثول أمام لجنةٍ مؤلفة من الأساتذة: حلیم الرومي، خالد أبو النصر، نقولا المني وآخرین ممن عُیّنوا لفحص الأصوات الصالحة للإذاعة اللبنانیة (لجنة الاستماع). كان ذلك یومًا مصیریًّا في حیاة نھاد، حیث وقفت ھناك بزیّھا الكلاسیكيّ (بلوزة وتنورة)، وبمصاحبة عود حلیم الرومي غنت" یا دیرتي" لأسمھان، فذھل حلیم الرومي لطلاوة صوتھا وإتقانھا، حتّى أنّه توقّف عن العزف في منتصف الأغنیة، واستمرّت نھاد وغنّت تانجو "یا زھرة في خیالي" لفرید الأطرش، وما أن انتھت من الغناء، حتّى أحاطھا أعضاء اللجنة، وأمطروھا بوابل من الإطراءات والتھاني، إعجابًا وتقدیرًا لصوتھا الممیّز والمتفرّد.
• كانت أولى أغانیھا الخاصّة من ألحان حلیم الرومي بعنوان: ”تركت قلبي وطاوعت حبك". وفي مرحلة التجھیزات لبثّ الأغنیة مباشرة على الھواء، اقترح الموسیقار حلیم الرومي أن تلقّب نھاد بأحد اسمین ھما: شھرزاد أو فیروز. في البدایة لم تحمل الموضوع على محمل الجدّ، لكن أخیرًا انصاعت له وعملت بنصيحته، فاختارت اسم "فیروز؛ أي حجر كریم بلون أزرق سماويّ، وبُثّت الأغنیة على الھواء مباشرة في الأوّل من نیسان عام 1950.
• كان حلیم الرومي مُتحمّسًا للموھبة التي َ اكتشفھا، لكنّه كان ذا مشاغل كثیرة، تمنعه أن یعطیها ما تستحقّ، لذلك اقترح أن یقدّم فیروز لعاصي الرحباني، عازف الكمان في الإذاعة والمُلحّن الطموح الواعد، إلّا أنّھا لم تتوقع الكثیر من ھذا اللقاء، لكن الرومي نجح في أن یغیر رأیها، واعتقد عاصي من جھته أوّلًا أنّ صوت فیروز مناسب لغناء الأغاني الشرقیّة فقط، ولیس مناسبًا للأغاني العصریّة التي كان مھتمًّا بھا كثیرا، وھذا كان رأي منصور أیضا. احتجّ الرومي قائلًا: إنّ صوت فیروز غیر محدود الإمكانیّات، مؤكّدًا أنه قادر على أداء الأغاني الحدیثة إلى جانب الأغاني الفلكلوریّة، وھذا ما أثبته المستقبل..
•كانت أوّل أغنیة غنّتھا لعاصي: "لما ولمیاء"، وھي عبارة عن حواریة غنائیة (دیالوج) بالاشتراك مع المطربة حنان. أمّا أوّل أغنیة خاصّة لحّنھا عاصي لفیروز فكانت "یا غروب"، تلتھا أغنیة "عتاب"، والتي تُعتبر بشارة الاحتراف لكلیھما (وھي عبارة عن مونولوج یشبه الـ "آریا" في الأوبرا. •1- غروب. •2- عتاب
عاتبت فیروز عاصي وبشكل مفاجئ، حين لم تستسغ الطریقة التي اھتم فیھا بإحدى الفتیات في محطة الاذاعة، بالرغم من أنّھا كانت تُبدي الرفض لفكرة الزواج بشكل مطلق، فلم تذھب ھذه الملاحظة البریئة سدى، وفي ذلك الربیع من عام 1954، وبینما كانا یتمرّنان سویة، على حافة البركة في محطة الإذاعة تحت نفس الشجرة، كرّر عاصي عرضًا كان قد عرضه سابقًا للزواج، وھذه المرّة ردّت فیروز (وبشكل غیر متوقع) بالإیجاب، فذھب إلى بیت والدھا خاطبا: وكان سعید عقل یقول لھم مستغربا: ولیه ما بتتزوجوا؟
• تزوّج عاصي وفیروز في كانون الثاني من عام 1955 في الكنیسة الأرثوذكسيّة، وتجمّعت في العرس حشود كبیرة في مساء ذلك الأحد، لمشاھدة ھذه الاحتفالیّة التاریخیّة، وبعدھا ذھب العروسان لقضاء شھر العسل في فندق مسابكي في شتورة، مكان الأحلام الذي یغفو ویصحو في صمیم جبال لبنان الشاھقة. (اطلعي يا عروسة)
• بدأت فیروز والأخوان رحباني مرحلة الشھرة في ٍ كثیر من بلدان العالم العربي، وكانوا كثیرًا ما یُدعْون إلى إذاعة دمشق وصوت العرب من القاھرة لتقدیم أعمالھم، فقد سافروا إلى القاھرة عام 1955، وھناك كتبوا واحدًا من أھمّ أعمالھم الموسیقیّة "راجعون"، المھداة إلى فلسطین وشعبها، كما غنّت فیروز العدید الأغاني الأخرى، منھا ثنائیّات بالاشتراك مع المطرب المصري كارم محمود: (مغناة زریاب)
• عادت فیروز والرحابنة من مصر إلى بیروت بعد ستة أشھر، وفي أوّل یوم من سنة 1956 أنجبت فیروز زیاد، وفي صیف 1957 كان لھا أوّل لقاء حيّ مع الجمھور في بعلبك، وكان ھذا الحشد الجماھیري الأكبر على الإطلاق الذي تجمّع في المعبد الرومانيّ، فأغرق المخرج فیروز بضوء أزرق من اتّجاھات مختلفة، حتّى بدت وكأنّھا ملاك یُحلّق في الفضاء، وحینھا بدأت تصدح بصوت واثق: "لبنان یا أخضر حلو"، وكانت تلك لحظة سحریّة حقّا، فبات الجمھور مفتونا:
• منذ ذلك الحین، أصبحت فیروز واحدة من أھمّ المعالم الرئیسیّة لمھرجانات بعلبك، بمسرحیّات غنائیّة ضخمة مثل "البعلبكیّة"، و "جسر القمر" و "أیام فخر الدین".
• تجسّدت موھبة فیروز في البدایة من خلال أشعار وموسیقى الأخوین رحباني فقط، إلّا أّنّ معظم الشعراء العرب المبدعین تھافتوا وتنافسوا لیكتبوا أشعارًا لصوتھا: عمر أبو ریشة، نزار قباني، میشیل طراد، سعید عقل، الأخطل الصغیر، أسعد سابا، جوزیف حرب، طلال حیدر. غنّت أیضًا أعمالًا لجبران خلیل جبران، میخائیل نعیمة، إلیاس أبو شبكة...، كما ھو الحال بالنسبة لشعراء عرب من العصور القدیمة مثل: أبو نوّاس، ولسان الدین بن الخطیب، وابن سناء الملك وابن زیدون.. فلا غرو أن یُصرّح طلال حیدر قائلًا عن فیروز: "الصوت یبحث دائما عن القصیدة، ولكن في ھذه الحالة، القصیدة تبحث عن صوت فیروز لتصبح قصيدة بالمعنى الحقیقي والكامل"،. كما اتّسعت قائمة من لحّنوا لفیروز لتضمّ: حلیم الرومي، توفیق الباشا، خالد أبو النصر، نجیب حنكش ، فلیمون وھبة، محمد عبد الوھاب، إلیاس الرحباني، زكي ناصیف، وابنھا زیاد الرحباني أغنية "سألوني الناس".
• لعل أبرز من لحّن لفیروز غیر الأخوین رحباني في تلك الفترة ھو فلیمون وھبة، حیث تمیّزت ألحانه بروحھا الشرقیّة الواضحة، بخلاف ألحان الرحابنة التي كانت تنزع نحو التجدید والتطویر الموسیقيّ. فلیمون صاحب الشخصیة المرحةِ خفیفة الظل، كان صدیقا حميمًا لفیروز، أحبّت شخصیتَه وألحانَه جدّا.
• كانت فیروز أیضًا نجمة ثلاثة أفلام سینمائیّة أُنتجت في الستینات: "بیّاع الخواتم"، "سفر برلك" والحارس.»:
• غنّت فیروز على المسارح العربیّة والعالمیّة، ومُنحت أوسمة شرف وعلامات تقلیدیّة من الترحیب، مثل المفاتیح الرمزیّة للكثیر من المدن، وربّما كان الأقرب إلى قلبها المفتاح المصنوع من خشب الزیتون لمدینة القدس، وعلى الرغم من أنّ فیروز لم تغنّ للقدس خلال زیارتها للمدینة المقدسة سنة 1961، إلّا أنّھا غنّت للقدس العدید من أغانیھا بعد حجّھا إلى ھناك، فغنّت بعد حرب 1967 "زھرة المدائن"، أبرزت فیھا الروح القومیّة العربیّة، والتعایش بين الأديان: أجراس الكنائس والآذان..
• كانت لفیروز والرحابنة علاقة وطیدة بدمشق، فقد احتضنتْ دمشق الفنّ الرحباني منذ بدایاته، في الوقت الذي حورب في َ لبنان نفسه، فقد منعت الحكومة اللبنانیّة إسماع أغانیھا سنة 1969 مدةَ ستة اشھر، بسبب رفض فیروز الغناء تكریمًا للرئیس الجزائري ھواري بو مدین! فكانت انطلاقة فنّهم الحقيقيّة من دمشق، فلم تُغنِّ فیروز على مسرح في العالم، مثلما غنّت على مسرح معرض دمشق الدوليّ الذي ّقدمت علیه جميع مسرحيّاتها، عدا عن الحفلات الغنائیّة المستقلة أواخر كلّ صیف، لذلك بادلَ فیروز والرحابنة ھذا الحب العظيم، بأن كتبوا ولحنوا عشرات الأغاني لھا وللشام، اعترافا منهم بفضلها عليهم.
• كان لفیروز رفیق درب ھو نصري شمس الدین، صاحب صوت جبليّ حنون، إذ لعب دور الجد والأب ابن الضیعة أو الملك، كان نصري فخورًا بصداقته مع فیروز، ومُحبًّا لھا لدرجة نكران الذات، ولفیروز معه أغان ثنائیّة ومحاورات زجلیّة جمیلة، فقد شكّلا معًا ثنائیًّا منسجمًا من الناحیة الفنیّة والإنسانیّة، وبھذا السیاق (لا یمكننا أن ننسى التعاون العظیم والمثمر بین فیروز وقدیس الطرب العملاق ودیع الصافي).
• خلال الحرب الأھلیّة اللبنانیّة قررت فیروز البقاء في بیروت، على الرغم من أنّھا كانت تملك المقدرةَ المادّیّة لتعيش في الخارج، فلم تغادرها حتى بعد إصابة بيتھا بصاروخ، ولم تُغنّ فیروز داخل لبنان خلال سني الحرب، لأنّها لم تكن ترید التحیّز لأیّة فئة، فقد أبدت إخلاصھا ووفاءھا لوطنھا وتعلقھا به، وعبّرت عن نزاھتھا ومحبّتھا الموضوعیّة للجمیع.
• إنّ التعاون بین فیروز والأخوین رحباني لأربع قرون من الزمن، قد أثمر ثروة إبداعیّة، لم یسبق لھا مثیل في العالم العربي، حیث غنّت أكثر من 800 أغنیة، ومثّلت في أكثر من 20 مسرحیّة غنائیّة، وثلاثة أفلام، وبضعة اسكتشات موسیقیّة، ناھیك عن الحفلات غیر المعدودة، والجولات والظھور المتعدد على امتداد الوطن العربيّ والعالم.
• لقد كتب الرحبانیّان، وغنّت فیروز لمواضیع عدیدة متنوّعة، مخاطبین قلب وعقل كلّ إنسان عربيّ، لا غرائزه ومیوله، غنّت فيروز للبلدان والمدن والشعوب، ولم تُغنّ قط لأيّ رمز أو زعیم سیاسيّ. غنّتْ للحب، للفرح والحزن، للأمل والتفاؤل، غنت للشعب الفلسطیني ولقضیته، غنت للأمھات في الأرض، للسماء والنجوم والقمر، للأطفال، للأب والأم، للأخ والأخت، للبنت والابن، غنّت لوطنها الحبيب لبنان، وحملته معھا إلى كلّ أصقاع العالم، و(هذا يُذكّرُنا بسيّد درویش). ولقد أبدى الرحبانیّون وفیروز اهتمامًا بمواضيع عديدة، حتى أنّه يصعب إيجاد موضوع معیّن لم یحظ بالذكر في أعمالھم وأغانیھم، وقد خاطبوا جمھورًا مؤلّفًا من جمیع ألأجیال والمذاھب والمشارب.
• عام 1972 تعرّض عاصي لأزمة صحّیّة أصابته بجلطة في دماغه، اضطرّته أن یغیب عن التحضیرات لمسرحیّة (المحطة) عام 1973، فغنّت له فیروز "سألوني الناس" التي تشتاق فیھا إليه، وتُعبّرُ عن أنّه یعزّ علیھا الغناء في غیابه للمرّة الأولى، وكانت ھذه الأغنیة أوّل ما لحّن لھا زیاد ابنها، لكنّ فیروز بعاصي ومنصور تدھورت في أواخر السبعینات، إذ جاءت مرحلة الخلافات الحادّة بین عاصي وفیروز، والتي أدّت في نھایة المطاف إلى الانفصال، وبعد تدھور حالته الصحّیّة، توفّي عاصي في 21 حزیران 1986، وشكّل رحیل عاصي كارثة في حیاة فیروز الشخصیّة، وأزمة حقيقيّة في مسيرة الفنّ العربيّ.
• طوت وفاة عاصي تاریخًا من الإبداع المشترك، لتفتح صفحات جدیدة منه مع زياد الابن، فبعد عام واحد على رحیل عاصي، أصدرت فیروز أسطوانة "معرفتي فیك" التي جاءت لتستوعب الماضي الفیروزيّ العريق، ولتضيف علیه إبداعًا أكثر جرأة نحو التطویر. وفي عام 1995 قدّمت فیروز وزیاد أسطوانة عظیمة، أسميت "إلى عاصي" ھدیة إلى روحه، استعادت فیھا فیروز غناء مجموعة الروائع الرحبانیّة بتوزیع وإشراف موسیقيّ للعبقري زیاد، مع أوركسترا ضخمة، كما كان يحلم عاصي أن تنفّذ موسيقاه، فقد عبّرت فيروز فيها عن حبّها الكبير لعاصي، وتقديرها لفنّه العظيم، فجاءت هذه أجمل هدية راحة لنفسه.
• إنّ الإرث الغنائيّ الفیروزيّ یَدین بالكثیر للعبقریّة الموسیقیّة والشعریّة للأخوین رحباني، وقد جسّد في السنوات الأخیرة أیضًا موهبة التألیف والتوزیع الموسیقيّ لدى زیاد الرحباني. بالإضافة إلى ذلك، فقد عزّز القاعدةَ الموسیقیّة الرحبة لفیروز، والتي تجمع ما بین الأداء الطقسيّ الكنسيّ والغناء العربيّ التقلیديّ، ما بین الغناء التطریبيّ والغناء التعبیريّ.
فیروز الرحباني - ملاحظات تحلیلیة:
• رحبان (ي) عقلھا وقلبها.. غاصت إلى اعماق النغم الرحباني، فلم ينبس الرحبانیّان ببنت شفة، إلّا وعلمت بها فيروز، ولم تَجُل ببالھما فكرة أو خاطرة، إلّا وأحسّت بھا ودغدغت عقلها ووجدانَھا، فلم یبقَ أمرٌ عاصٍ (ي) عليها، وقد خرج منه صوتها ظافرا منصورً(ا).
• فیروز والأخوان رحباني عبارة عن "ثالوث او مثلث" متساوي الأضلاع، یُجسّدون العلاقة بين الشكل والمضمون، فلا قيمة للواحد دون الآخر، خاصّة عندما یصبح المضمون شكلًا ويغدو الشكل مضمونًا، فقد كانوا بمثابة جسر بین الشرق والغرب، من خلال الحفاظ على الهُویّة العربیة اللّبنانيّة، وأجادوا المزج بین البساطة والسذاجة التي ميزت بين الضيعة وبین الأرستقراطیّة الغربیّة.
• خلق المشروعُ الرحبانيّ - الفیروزيّ موازنة مثالیّة بین جمیع الأشكال والصیغ الموسیقیّة العربیّة، الشعبیّة والكلاسیكیّة، الدینیّة والدنیویّة، العربیّة القدیمة والعربیّة المتأثرة بالموسیقى الغربیّة، وقد حافظوا على البزق كممثل للموسیقى الشعبیّة اللبنانیّة، وأدخلوا البیانو كممثّل للموسیقى الغربیّة والھارمونیا..
• ھنالك علاقة وطیدة وانسجام مثاليّ بین الكلمة والنغمة بكلّ مُركّباتهنّ، وكما قال فاجنر: "زواج الشعر من الموسیقى أفضل قران في الوجود"، فالموسیقى عندھم تُبلور وتنحت المعاني الكامنة بالكلمة، وتمنحھا أبعادًا عمیقة سرمديّة، فموسیقاھم تشمل عناصر كلامیّة ولغویّة، وكلامھم یشمل عناصر لحنيّة وموسیقیّة، وھم یوازنون بامتیاز ما بین المعنى القاموسيّ والمعنى العروضي، لحنیّة بالكلمة والنغمة على السواء..
Lexical level vs. prosodic level
• للنغمة الرحبانیّة لون وطعم ورائحة خاصّة، وھي ذات حجم- طول وعرض وارتفاع واتجاھیّة معیّنة directionality، فھو نغم حضاريّ راق ومصقول، ولیس نغم صاخب مبتذل وناشز فیه إسفاف وإباحیّة رخیصة. ھذا النغم یضفي على الكلمة رونقًا بدیعًا، وعمقًا مشاعریًّا وفلسفیًّا وإنسانیًّا خلّابًا، وبنفس الوقت فھو یستوحي ویتغذى منها painting word.
• لقد وطّدوا العلاقة ما بین الموجود والمنشود – وبین الطبیعة الخلابة، البساطة والسذاجة (اھل الضیعة: مخول، أبو فارس، سبع، ذیب) وبین الأوتوبیا والعالم الروحانيّ المثاليّ، والذي كان یستوحي من ھذا الواقع، فقد تأثروا من البیئة المحیطة بھم، ولكنّھم صھروا ھذه التاثیرات داخل "المختبر الرحبانيّ"، لينتج عنه لغة موسیقیّة وشعریّة في غایة الروعة والجمال.
• بالرغم من الیأس وشظف العیش، فھم یحاولون خلق الأمل بالحیاة لدى المواطنین الفقراء والمساكین: "الحیاة تبدأ بالضفة الثانیة للیأس" (سارتر).
• عاصي كان یقول دائما "فیروز ھي نحنا، ونحنا فیروز"، فقد كانت فیروز حبّ عاصي الأبديّ، وكان مجنونًا بحبّها، وعندما انفصلت عنه، كان یبحث عنھا وینادیھا بصوت عالٍ، فھي صوت ضمیر عاصي وخفقات قلبه وسیمفونیّة حياته، وللأسف الشدید، فقد كانا ضحیّة العالم الخارجيّ المشبع والمثقل بالضغینة والسوء.
• لقد أوجدوا "اللغة اللبنانیّة البیضاء" التي تدمج بطیّاتھا اللغة المحكیّة، والتي تعكس الواقع اللبنانيّ! فعلا، فقد كانوا شعراء الموسیقى وموسیقیّي الشعر.
• قال نزار قباني عن فیروز الرحباني "ھي رسالة الحبّ من كوكب آخر"، وفعلًا، فإنّ للحبّ عندھم مكانة عالية وسامیة، ونحن لسنا بصدد الحبّ الرخیص الفاشل والمبتذل، إنّما الحبّ المبنيّ على القيم المثالیّة الشفّافة النظیفة الطاھرة والسامیة. لقد حاولوا تغییر وتحسین الواقع الاجتماعيّ وبناء العدل الإنسانيّ، من خلال الحبّ الذي ھو الهدف المثاليّ المنشود.
• لذلك نرى ونسمع فیروز تصلّي بغنائها وتغني بصلاتها، وقد وصفھا الشاعر العظیم محمود درویش بأنّھا "سفیرتنا إلى الخلاص!"، فلا خلاص بغیر الصلاة !
• فیروز ھي فعلًا النافذة الذھبیّة لفردْوس المشروع الرحباني الرائع، وھي قارورة الطیب والإناء الجمیل الذي سكب فيھا الرحابنة خمرةَ فنّهم الخلاصيّ! وكما قال السیّد المسیح: "توضع الخمرة الجدیدة في أوعیة جدیدة، فتَسلمُ الخمرة والأوعیة".
• كلما استمعنا لأغنیةٍ فیروزیّة، نحن ندخل من البوّابة الرحبانیّة الرحبة لنطّلع على عالم سحريّ ومثاليّ، ولنرتشف من الجوھر فضلًا عن المظھر، ولنتذوّق اللبّ رفضًا للقشور.
• كان للمثلث الرحباني مسؤولیّة إنسانیّة اجتماعیّة وطنیّة وقومیّة عظیمة، من خلال زمكنة أدبهم وموسیقاھم، وانبثاقھم من الماضي وتجذّرهم به، والتوق إلى بناء مستقبل أوتوبي أفضل-كلّ ذلك تحت شعار المحبّة "التي لا تعرف إلّا ذاتَھا، ولا تأخذ إلّا من ذاتها".
• وبما أنّ عنوان المشروع الفیروزيّ الرحبانيّ ھو المحبّة والعطاء، وبما أنّ اسم السیدة فیروز یرتبط ارتباطا وثیقًا بعید المیلاد المجید، وھا نحن على أبواب میلاد المخلص الذي جسّد المحبة بأسمى معانیھا، فإنّ السیدة فیروز تتذكّر الأولاد الفقراء، وتطلب من "سانتا كلاوس" وبتقلله: "روح زورھن ببیتھن – بیتھن فقیر ما عندن شي"، لأنّه مثلما قال القدّیس مار شاربل: "الشيء اللي بتملكه ما ھو الك، والشيء اللي بتعطیه ھو اللي الك": كل عام والسیدة فیروز ترفل بثوب من الصحّة والعافیة، وكل عام وانتم بخیر.
ليست هناك تعليقات