فن الكلام (بين السخرية وحسن الجواب)
بكر أبوبكر
السخرية من الجمهور أو الاستهانة به تعد من أبرز سقطات المتحدثين الذين سيديرون الظهر للمتحدث او الخطيب ولا يحترمونه حتى لو كان في أوج سطوته وجبروته كما الحال مع رؤساء الدول. ولنا نموذج فاقع في الرئيس الامريكي (دونالد ترامب) الذي تكتب عنه وكالة (يورونيوز): "على مدى السنوات القليلة الماضية، دأب ترامب على ترديد الجملة التالية: "أنا جئت لأحدث القطيعة مع التنميق في الخطاب السياسي".
ولهذا نراه في كثير من الأحيان يطلق ألقابا تسخر من خصومه السياسيين مثل "هيلاري الحثالة" و "تيد الكاذب" في إشارة لخصمه الجمهوري تيد كروز أو "بوكاهونتاس" ويعني بها العضو الديموقراطي في مجلس الشيوخ "إليزابيث وارن" التي قد تترشح ضده في الانتخابات الرئيسية المقبلة بل أنه اتهم "ماكسين واترز" وهي عضو في مجلس النواب بأن لها معدل ذكاء ضعيف."[1]
لا تسخر فتخسر
وفي محاضرة لنا كانت البداية عندما قلت لأحدهم مثنيا على جوابه الجميل على السؤال الافتتاحي التحفيزي (لا أبا لك)، وأنا ابتسم، فغضب غضبا شديدا واحمر وجهه الذي امتلأ كلاما، ورأيت أنه يجهز نفسه للخروج، فعلمت أنه فهم الكلمة بمعنى السخرية أو الشتيمة كانها لعناً، وما هي بالعربية كذلك فذهبت إليه واجلسته واضعا يدي على كتفه، وذكرت له حكاية المقولة العربية لتتكشف له الحقيقة معكوسة لما ظن.
تقولُ العربُ في معرض المدح[2] : لا أبا لك. أي لا كافٍ لك غير نفسِك. وقد تُذكَرُ بمعنى جِد في أمرِك وشَمِّر. لأن من كان له أب اتّكلَ عليه في بَعضِ شأنِه.
وذات يوم، سمع (سليمانُ بن عبدالملك) رجلاً من الأعراب يقولُ في سَنَةٍ مُجدِبَةٍ يقول
ربَّ العبادِ ما لَنا وما لَك؟ قَد كُنتَ تسقينا فما بدا لَك؟
أنزل علينا الغيثَ لا أبا لك!
فحمَلَهُ سُليمانُ على أحسن مَحمَل فقال: أشهدُ أنَّ لا أبا لهُ ولا صاحبة ولا ولد.
والى ذلك ابتسم الشخص، وقال لي: لا أبا لك!
اسأل تنل
في فن الحديث للسؤال طريقة، فإن سألت أنت كمتحدث سؤالا للجمهور يجب أن تُحسن طرح السؤال وتحدده فلا يأخذ لجاجة في الاستفسار عن معناه، وأن يكون بصلب الموضوع والا يكون محرجا لأحد او بصيغة امتحان، او استعراض، وانما بشكل مفتوح يقبل تعددية الرأي فيشعر المسؤول من المستمعين بالراحة لا بالضيق او الانكماش.
ويجب ان تكون مستعدا ذهنيا مسبقا لجميع الردود، فأنت كنت قد قلبت الاجابات المتوقعة على اوجهها وأعددت نفسك للجواب فلا تتفاجأ ولا تُحرج ابدا.
اما السؤال من المستمِع فللمحاضر أن يضع ميزانا لمحاضرته، يقبل فيها التدخلات بالنقاش والأسئلة ان أراد او يوضح للجمهور أن يصغوا ويكتبوا ما يشاؤون من أسئلة ليجيب عليها لاحقا، ويحبذ ان يأخذ موافقة مدير الندوة ان وجد وجمهور المشاركين
وسؤال المشاركين حين التعامل معه له من الصيغ المثير كما سنرى في البند التالي، ولكن في جميع الاحوال فان حُسن السؤال نصف الاجابة كما تقول العرب.
ويقول الشاعر الاعمى (الضرير) بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ:
شِفَاءُ الْعَمَى طُولُ السُّؤَالِ وَإِنَّمَا ... دَوَامُ الْعَمَى طُولُ السُّكُوتِ عَلَى الْجَهْلِ
فَكُنْ سَائِلًا عَمَّا عَنَاك فَإِنَّمَا ... دُعِيتَ أَخَا عَقْلٍ لِتَبْحَثَ بِالْعَقْلِ.
الفصاحة في السؤال
السؤال الصحيح نصف الجواب أو فصاحة السؤال في فصاحة الاجابة كما يقول ابوالعيناء[3]، لذا اهتم به حين تسأل وان سؤلت ولم تعرف الجواب فلك من الأسرار ما يزيح عن صدرك الحرج.
قيل لعبد الله بن عباس: أنّى لك هذا العلم؟ قال: «قلب عقول، ولسان سؤول» .
سؤال لا تعرف جوابه شارك المجموعة به أو ببساطة قل: دعوني أبحث لأتأكد فلا عيب في ذلك وهو أفضل من أن تتذاكي فيما لا تعرف.
ويمكنك إعادة رمي السؤال في حضن صاحبه، وفي كل الاحوال فأنت من المفترض ان تتوقع الاسئلة مسبقا وتجهز نفسك للاجوبة.
ان سُئلت سؤالا محرجا أو جوبهت بتعليق محرج! تبسم واصبر، او ارم الكرة في ملعبه هو.
اذا تم ضغطك بالوقت لخّص افكارك بدقائق او اختم بمثل أو آية او قصة ذات صلة.
اما اذا طال الوقت عليك فاكتب على اللوح او استخدم الوسائل المساعدة او اطرح سؤالا، فتمرر الوقت بسلاسة.
أما اذا نسيت الفكرة التالية فاسأل سؤالا أو انظر للورقة ومخطط المحاضرة لتلتقط الفكرة وتكسب زمنا للتفكير، وممكن ان تكتب علي اللوح أيضا.
اذا شعرت بضغط او انخفاض أو توتر أو ملل خذ استراحة أو وجه سؤالا للجميع.
صادفني في دورة عقدناها في تونس وفي البداية وأمام مرأى ومسمع القيادة الفلسطينية ان استوقفني احد الطلبة المشاركين بالدورة في الفقرة الاولى: فقرة توقعات الحضور ووجه لي كلمة نابية رفعت الضغط لدي وجعلتني ارتبك لهنيهة! فأنا لا أدرى ما السبب؟ ولم أعرف ما فعلت ليشتمني وأمام المسؤولين وفي الافتتاح!
وكان الدور قد تجاوزه في طرح رأيه عن توقعاته للدورة فلم أجد سببا الا أنه لربما قد شعر بأنني لم أعطه الفرصة الكافية، فقلت له متدراكا الأمر بسرعة:
أنا آسف تفضل اكمل، ففعل!
ولولا هذه السرعة في التنبه للموقف والضغط، والضبط للذات لحصلت اشكالية كبيرة، فلا سبب كان يدعو للشتم! الا ما قاله لي ذات الشخص في نهاية الدورة، وهو أنه كان يظنها دورة كسِواها من الدورات التي لا تقدم جديدا ولا تؤخر مستقِرا مما أخذه في دورات المعتقل فأحب أن يحرج المتحدث منذ البداية فلطمته جِدّة وحيوية الموضوعات، فاعتذر وان متأخرا وفي مكتبي.
ووجهت من أحدهم بمحاضرة عن العمل المفيد أو العمل المنجز في المؤسسة وعلاقته بالاتصالات وفن الحديث أنه كان يربط أي عمل بفكرة البرّ التي تعني لديه فقط العمل كجهد، دونا عن الاتصالات وعن القول وهو هنا فن الحديث، فكان يسأل متشككا في أهمية ما نقوله.
فقلت له مقتبسا وكما يورد الماوردي في كتابه أدب الدنيا والدين: قال المسيح عليه السلام: الْبِرُّ ثَلَاثَةٌ: الْمَنْطِقُ وَالنَّظَرُ وَالصَّمْتُ. فَمَنْ كَانَ مَنْطِقُهُ فِي غَيْرِ ذِكْرٍ فَقَدْ لَغَا، وَمَنْ كَانَ نَظَرُهُ فِي غَيْرِ اعْتِبَارٍ فَقَدْ سَهَا، وَمَنْ كَانَ صَمْتُهُ فِي غَيْرِ فِكْرٍ فَقَدْ لَهَا، والبر هو الخير والصدق والفضل، والمنطق اي الكلام هنا، ولغا من اللغو اي الباطل، او ما لا يعتد به، والسهو واللهو معروفان. فلم يعد البر حسب تعريفه هو مقتصرا على العمل كجهد عضلي دون الكلام.
وكان من الممكن الإشارة أيضا لأهمية حسن صون اللسان باعتباره بِرا القول المرفوع عن الرسول: (وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وُجُوهِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ ألْسِنَتِهِمْ؟).
ليست هناك تعليقات