الصراع المذهبي والهوياتي والمركزية الغربية
بكر أبوبكر
استطاعت التنظيمات الاسلاموية المتطرفة وبعض النُظم الداعمة لها في عالمنا العربي ومنطقتنا المتوترة أن تنتزع من الناس هدوء حياتهم واستقرار معاشهم واطمئنان معتقداتهم، بل وتجاورهم السمح الذي لم يكن ليفرق تاريخيا بين أصحاب المذاهب أو حتى الأديان،فكلنا أبناء الوطن والأمة والتاريخ المشترك والحضارة الواحدة.
أحدثت هذه التنظيمات بأفكارها الجامدة والمتطرفة والمحملة بطاقة القداسة الموهومة في الدول تصدعا وفي المجتمعات شروخا، وفي الأذهان إرباكا، وفي عديد النفوس حيرة وربما تشككا فيما استقر ووقر، ليكتشف البعض أن ما عاشوه سنينا وكأنه مخالف للدين، أومن منكراته! أوليكتشفوا أنهم مسلمين وليسوا بمسلمين؟
من هنا بالضبط أي عبر إحداث حالة التشكك والإرباك المعرفي والنفسي يبدأ عمل المتعصبين من الاسلامويين داخل الدولة أو الجماعة، ويبدأ طغيان فكر التطرف، فيتم تجنيد مثل هؤلاء المتراوحين بين البينين فيسقطون في شباك التطرف والارهاب وهم يسعون بظنهم الى جنة اليقين.
التطرف داخل القومية أوالطائفة أو المذهب الواحد، أو بين المذاهب تجاه بعضها البعض يُخرج من الانسان أسوأ ما فيه من مخاوف فيتمسك المتطرف بأهداب المسائل ومحيطها لا جوهرها ويصر على الشكليات خوفا من وصول النحت الى الجوهريات، فيضرب كل المخاوف بعنف رفضه الذي قد يتخذ شكل الانسحاب من المجتمع أو الانزواء في عالمه أوالهجرة الشعورية أو المكانية، اويتخذ شكل الهجوم للخارج.
التقوقع وصراع الهويات
قد يتحول هذا الصراع النفسي والعنف الداخلي بالشخص او الجماعة او الدولة المذهبية الى فعل مادي على الأرض حين تتوفر الظروف فتنشأ المساحات المنفصلة، والمكتفية بذاتها، كما يحدث بالتقوقع داخل الحزب أو الجماعة، أو الدولة التي يراها هؤلاء أنها الأقرب للحق أوداخل ما يظنونها دولة "الخلافة" أو "الإمامة" المنتظرة.
التنظيمات الاسلاموية المتطرفة تلك السنية أو الشيعية لا فرق تعصف بالمنطقة، فتجتاح المجتمعات والحيوات المستقرة فتوزع صكوك الغفران والاتهامات بين الطوائف ليتحول الصراع بين ابناء الدين الواحد من صراع سياسي محمّل بالدين أي من صراع على السلطة الدنيوية، وبرامج الحكم الى صراع على الهوية والمذهب والوجود.
صراع المذاهب بالحقيقة هو صراع في العمق والجوهر، إذ يتحول الاصطفاف بين الفرقاء المختلفين من أتباع المذهب الواحد كلهم معا صفا واحدا ضد أتباع المذهب المخالف، بغض النظر عن تدين الشخص أو طبقته أو استنارته أو ديمقراطيته أو تشدده.
اليوم في العراق وسوريا ولبنان بشكل محدد تتقاتل الهويات المذهبية بعنف التاريخ تاركة وراء ظهرها حقيقة الصراعات داخل توجهات أصحاب ذات المذهب نفسه تلك المتعددة، أو تلك العلمانية العابرة للمذهبية، ولكنها بالحقيقة لا تلغيها.
نظام تصدير الخوف
الصراع داخل ايران الشيعية المذهب والدستور يبدو كبيرا، ولا تنفع معه قعقعة السلاح الايراني في الجوار وصولا الى لبنان واليمن فهو صراع حقيقي بين المتشددين والاصلاحيين، بين المستنيرين وأصحاب نظام لا يرى بنفسه الا الحق الاوحد المقدس، هو صراع بين أصحاب النظرة الوطنية الجماهيرية، وبين دعاة تصدير الثورة الممثلة حصريا للاسلام، ما هو تغليف للخوف على النظام بتصدير الصراع للخارج.
لا تتوقف الصراعات في الدول العربية بين مشاريع "الدولة الاسلامية" بأنواعها التي تطلقها الأحزاب المختلفة الاخوانية المنشأ أو السلفية القتالية أو غيرها لغرض أساس هو افتكاك السلطة بدعوى "الحاكمية" او "تطبيق الشريعة". ولا يتوقف بذات الوقت صراع المسلمين عامة بدولهم الوطنية مقابل تنظيمات الافتراض للتمثيل الحصري للدين.
تعاني الدول التي بات يطلق عليها بشكل غربي استشراقي مقصود اسم "الدول السنية" من صراع هوياتي عميق ضد المحور الايراني الذي يحمل ثقل المذهب على ظهره خالطا إياه بالسلطة والسطوة والسياسة في ابتعاث لتاريخ الإمامة في مواجهة العالم الآخر أي عالم الخلافة .
الهويات المذهبية، والحضارية
تعاني ذات الدول أي صاحبة الأغلبية السنية وتلك المختلطة مذهبيا من صراع آخر في مواجهة الاسلام السياسي (السني) سواء المشكّل للتيار العام أو التيار المعتدل أو المتطرف، وإن كان من اتفاق عالمي ضد التيار المتطرف ممثلا ب"داعش" و"القاعدة" و"النصرة" فإن التعامل مع التيار الاسلاموي السائد ممثلا ب"الاخوان المسلمين" ونظام "الدولة الاسلامية في ايران" المذهبي بامتياز دستوري يظل متراوحا بين فكرة الحفاظ على الهوية والمصلحة والدور الوطيفي.
إن استنزاف المشاعر والعقول وتدمير التجاور المستقر للناس، وابتعاث الصراع المذهبي الهوياتي او الصراع السلطوي السياسي تحت ذريعة القداسة والفهم الايديولوجي الاقصائي كلها صراعات تنهش في جسد الأمة وتقهرها وتؤخرها، فتحقق تعملق المشاريع الأوسع على حساب صراعات الاقليم.
هذه الصراعات هي بالحقيقة تغطية على رغبات الأنظمة الشمولية وشهوات الاسلامويين في البقاء بالسلطة أي سلطة تلك التي تحرف الصراع من حقيقة انه صراع حضاري لمجمل الأمة الغنية بتنوعها وثرائها الديني والروحي والقومي في مواجهة عقلية السطوة الاستعمارية بنظرتهاالاستشراقية المتمركزة حول الذات الغربية وقمة مشروعها في قلب الأمة من خلال الكيان الصهيوني في فلسطين.
لن نقلل من صراع الهويات الجوهرية، ولا صراعات الاحزاب الاسلاموية لافتكاك السلطة، ولا صراع التطرف والاعتدال فأحشاء الدول الوطنية قد تحتمل او تعاني مثل هذه الصراعات، ولكن ما لا نرى فيه الا انزياحا كليا هو أن تستهلك كل مقدرات الأمة الوسطية ذات الحضارة الجامعة وتستنزف لخدمة العقلية الغربية المتمركزة حول ذاتها بنظرتها الاستعلائية، والاستغلالية المصلحية لمنطقتنا وحضارتنا،وفي ذلك نتوقف طويلا ونعيد بناء الأولويات والثانويات.
ليست هناك تعليقات