الدية التي تليق بدماء الشهداء
اللواء د. محمد المصري
وجوه الأحبة وروائحهم الزكية تهب على قلبي وروحي في مثل هذا اليوم، فما زلت أرى ابتسامتهم الأخيرة على وجوههم عندما استشهدوا برصاص الفرقة والانقسام وظلم ذوي القربى وجهلهم وعمائمهم.
في مثل هذا اليوم من سنة 2007 استشهد أخي وابن أخي وابن أخي، كانوا ثلاثة، قبّلوا الأرض واستراحوا من رؤية قتلتهم ومن رؤية ما حصل بعد ذلك من فظائع.
في مثل هذا اليوم، يثور القلب بما فيه، الحنين إلى الأهل والبيت والبحر والأصحاب، إلى رائحة غزة وريحها، إلى بحر غزة وبهارها، إلى غزة وعزتها.
في مثل هذا اليوم، أشعر دائماً أن استشهاد أخي ومن معه حفر حفرة عميقة دُفنت فيها أحلامنا ومستقبلنا ودولتنا.
وبقدر الألم الذي أشعره في قلبي فإنني أغوص في لُجّة حُزنٍ عميق، ذلك أن المصالحة تبتعد أكثر فأكثر، وأن فكرة الانقسام تعزز وتتكرس أكثر فأكثر، وأن أعدائنا وخصومنا يستخدمون انقسامنا كسلاحٍ نافذ يشهرونه في وجوهنا، وتحول ما ننقسم عليه أو حوله أو بسببه، تحول إلى هدية مجانية مستمرة لخصومنا وأعدائنا.
منذ استشهاد شقيقي ومن معه، منذ ذلك اليوم وحتى هذه اللحظة، خسرنا كثيراً، خسرنا الموقف والأداء والصوت والنموذج، وتراجعنا وخسرنا بعض الخنادق وبعض المواقع، لم نعد أولئك الفلسطينيين الذين حققنا ما يشبه المعجزات.
أشعر دائماً أنني لم أفقد فقط شقيقي وأبناء شقيقاي، بل فقدت أحد أحلامي وقطعة من قلبي وجزءاً من أيامي، فهذا الانقسام لا يشبه أي انقسام سابق، ولا يشبه أي خلاف عصف بالشعب الفلسطيني، هذا انقسام يندفع بقوة ليكون انفصالاً لا سمح الله، لأن هناك من يريد أن يحول هذا الانقسام إلى جزء من اللعبة الإقليمية والدولية، بحيث يتم تمزيق وحدة الشعب ووحدة الهدف ووحدة المصير.
لهذا، فإنني أسمح لنفسي هذا اليوم وفي هذه الذكرى، أن أحزن وأن أُظهر حزني وأن أكتب عنه، لأقول أن دماء أقربائي هي دماء شعبي، وأن المصيبة ليست شخصية، بل هي لكل فرد منا إن لم نتحرك قبل فوات الأوان.
ومما يزيد في حزني أن أقرأ أن هناك من يتحرك الآن للمصالحات المجتمعية ودفع ديات لمن سقطوا خلال تلك الأيام السوداء.
ولست ضد المصالحة المجتمعية، ولست ضد هذا النوع من العدالة إذا انتهى إلى سلم أهلي، ولكني، وهنا أتحدث عن شخصي فقط، إذ أنني أعتبر أن الديّة التي تليق بشهداء آل المصري، أحبابي، الديّة التي تليق بدمائهم هو تحقق الوحدة وإنجاز المصالحة وعودة القرار إلى أهله واستعادة عافية المجتمع والقضية.
الديّة التي تليق بشهداء آل المصري، أحبائي، هو أن أفتح ذراعيّ وأحتضن بحر غزة وأشد هواءه إلى صدري حتى أرتوي وأُشفى، هذه هي الدية التي أُريدها وأنتظرها ولا أقبل غيرها.
ليست هناك تعليقات