طلاقُ العصرِ يفوقُ صفقةَ العصرِ
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
تزامنت ورشة المنامة الاقتصادية التي سبقت الإعلان الرسمي عن صفقة القرن، ومهدت الطريق لها، مع خبرٍ اجتماعي صاخبٍ أخذ صفةً رأسمالية، وتقدم في بورصات المال على أرصدة ورشة المنامة، وقد يبقى لأيامٍ طويلة يتصدر نشرات الأخبار الاقتصادية والاجتماعية في آنٍ، فقد كان الخبر ولا زال لافتاً للأنظار ومسترعياً للانتباه، وذلك بالنظر إلى القيمة المالية التي صاحبته، إذ قضت محكمة أمريكية بإلزام صاحب شركة أمازون الشهيرة بتعويض طليقته مبلغ 68 مليار دولارٍ، وتمكنت طليقته بالحكم الذي صدر لصالحها من استعادة حريتها، وحفظ كرامتها، وتعويض نفسها، إذ نالت حكماً مبرماً غير قابلٍ للطعنِ بالحصول على التعويض المالي فوراً ودفعةً واحدةً، دون أن تقدم لزوجها السابق أدنى تنازلاتٍ على مستوى كرامتها أو سمعتها، ودون أن تخضع لشروطٍ مذلةٍ والتزاماتٍ قاهرةٍ.
بالمقابل وفي اليوم نفسه، فقد ساقت الإدارة الأمريكية عدداً من الأنظمة العربية إلى المنامة، للمشاركة في الورشة الاقتصادية التي وصفتها بورشة الازدهار والتقدم، والرخاء والتطور، وهي التي غاب عنها الفلسطينيون بقرارٍ موحدٍ مشهودٍ له، حيث رصد مصممو الصفقة مبلغ خمسين مليار دولارٍ فقط، لتمويل الدول العربية المحيطة بفلسطين وغيرها، فيما يشبه الإغراء والتوريط، إلا أنهم قرروا صرف هذه المبالغ على مدى عشرة سنواتٍ، أي أنها لن تدفع لهم دفعةً واحدة، بل سيتم تقسطيها ضمن برنامجٍ معدٍ بدقةٍ، يعج بالشروط والالتزامات، وفيه ضوابط وأحكام، وعلى الدول المستفيدة من هذه المبالغ أن تلتزم الشروط، وأن تخضع للبرامج، وأن تنفذ ما عليها، فالعطاء ليس جوداً أو كرماً، إنما هو مقابل خدمات وأجرة مهامٍ.
وقد قبلت الدول العربية طائعةً أو مجبرةً بشروط الصفقة، مقابل وعودٍ قد لا تتحقق فعلياً أو كلياً، وفي أحسن الأحوال فإنها ستدفع من الخزائن العربية الغنية، السعودية والخليجية، إلى خزائن الدول العربية الفقيرة، ولن يكون هناك ضامنٌ لها، أو متعهدٌ بالوفاء بها، اللهم إلا إذا قدمت الدول العربية تنازلاتٍ أكثر، وقبلت بما يعرض عليها ويقدم إليها، حيث أن المطلوب منها لم يعد خفياً أو سرياً، إذ يلزمها الاعتراف بالكيان الصهيوني، وتطبيع العلاقات معه، والتنازل عن الحقوق الفلسطينية المشروعة، والكف عن المطالبة باستعادة أرضهم وإعلان دولتهم، والامتناع عن دعم المطالبين بحقوقهم أو المناضلين من أجل وطنهم، والتضييق عليهم ومحاربتهم ليقبلوا بما يتفقون عليه مع الإدارة الأمريكية والعدو الإسرائيلي.
رغم أننا لا نقايض وطننا بثمن، ولا نبيع أرضنا بكنوز الدنيا، ولا نفرط بحقوقنا مهما بلغت حجم التعويضات البديلة، ونرفض أن نجلس على طاولة التفاوض أو المساومة، ولدينا الاستعداد للتضحية من أجل الحفاظ على حقوقنا ومقدساتنا، وتحرير أرضنا واستعادة وطننا، إلا أننا نسأل المشاركين في ورشة البؤس وندوة العار، ألا تشعرون أن هذه المرأة أكثر احتراماً وأكثر حرصاً على كرامتها منكم، فقد نالت بمفردها أكثر من مجموعكم، وأخذت لنفسها دفعةً واحدةً مبلغاً يفوق مبلغكم، وتمتعت وحدها بحرية التصرف بأموالها، ورفضت الخضوع لأيٍ من الشروط التي تنتقص من كرامتها وتحط من قدرها.
فهل أن حرية هذه المرأة الأمريكية تستحق قرابة سبعين مليار دولار، بينما حقوقنا العربية والإسلامية في فلسطين الوطن والأرض والتاريخ والمقدسات، وحاضرها وماضيها ومستقبلها، يساوي لدى الإدارة الأمريكية هذه المبالغ المعدودة التي يقتطعونها من مال العرب ليردوها عليهم، وهم الذين أخذوا منهم عنوةً أو بالتوافق معهم أضعاف هذه المبالغ، وما زالوا يبتزونهم ليأخذوا منهم أكثر، وسيستمرون في ابتزازهم والضغط عليهم، وتخويفهم وترهيبهم، حتى يأخذوا منهم كل شئ، ويتنازلوا لهم عما قد يبقى عندهم أو بين أيديهم.
إنها ليست شطارة الأمريكيين فحسب، ولا هو خبث الإسرائيليين فقط، أو مهارة وحذاقة الصهاينة عموماً، إنما هي الأخلاق الوضيعة والقيم الرخيصة والمفاهيم البالية، فلو أن الدول العربية أظهرت عزةً وكرامةً، وأبت الخضوع والاستسلام، وأصرت على الحقوق والثوابت، وتمسكت بالأرض والمقدسات، ورفضت أي مساومات أو صفقات، وبقيت كشمس الأصيل لا تخضع، حينها ما كان للصبي الأمريكي ولا لرئيسه المقاوم أن يتطاول عليهم ويتمادى، ويفرض عليهم شروطه ويبيعهم حقوقهم بأموالهم، إذ علم أننا هُنَّا على أنفسنا فأصبح قبولنا بالهوان سهلاً، وتجرعنا للإهانة بسيطاً، وعيشنا في ظل المهانة ممكناً، وتعريفنا للذل مختلفاً، حتى غدت حرية المرأة الأمريكية وطلاقها أغلى ثمناً من الكرامة العربية وقيمها.
ليست هناك تعليقات