تلبيس إبليس والنفس الفاجرة
بكر أبوبكر
حول ما يُسمى "المس الشيطاني أوالتلبيس لإبليس" ما أشير إليه مؤخرا في بعض الحوارات حول قضية معينة حصلت في فلسطين، وقِس عليه في كل مجتمعاتنا، نقول: لا غرابة مطلقًا وجود مثل هذه المفاهيم، فمجتمعنا يعيش في العقل الماضوي للأسف، لا سيما مع اندحار العلم وطغيان العقلية الاستهلاكية، والخزعبلات تلك التي تستقي معارفها من كتب قديمة.
في تلك الكتب التراثية القديمة لربما أجاد بعض من مؤلفيها -حينها-في محاولتهم لفهم الظواهر النفسية والانسانية وبعض الامراض الجسدية خاصة الصرع، بمنطق أو منهج البحث والتفكير حتى عصرهم، فلم يكن حتى تاريخه أن ظهر جليّا علم النفس والأمراض النفسية والأمراض العقلية وغيرها.
والى ذلك تم تأويل كثير من الآيات الكريمة والأحاديث لتتّسق مع طريقة أو منهج التفكير القديم في (الأهداف والوظائف والمناهج المصطبغة ببشريتها، ولطبيعة الزمان والمكان والنمط الحضاري)[1] والتي يتم نقضها اليوم بآليات ومناهج البحث الحديثة في العلوم الاجتماعية والانسانية والعلوم النفسية...الخ، بل وفي مناهج فهم وتفسير الآيات الكريمة[2] والتعاطي مع الأحاديث الشريفة لدى كبار العلماء.
بمعنى آخر أن المشكلة قد لا تكون في ذات كتب التراث كلها لذاتها -مع قراءتها للمختصين كما هي، وحاجتها قطعًا للنظر المتفحص والعقلاني والنقدي العميق وبالمناهج النقدية والبحثية الحديثة-وإنما المشكلة الأكبر في الناقلين اليوم دون تمحيص وتحديث، أولئك الذين يتعلمون بنفس أدوات التفكيرالتراثية القديمة دون دخول على أدوات العصر الجديدة.
إن فكرة المسّ وفكرة التلبيس (إبليس أو الجن) فكرة عند هؤلاء قائمة وحقيقية! وينظر لها بمنطق الكائن الخارجي الذي يلبس الانسان كالثوب؟! ما هو مخالف كليّا للحقيقة الاسلامية الساطعة برأيي (هناك نفس الشيء لدى المسيحية واليهودية)، فالقرآن الكريم واضح حين التعامل مع هذا الأمر فالمقصد كلّه في الآيات هو ذات النفس الانسانية شرورها وخيرها.
النفس الانسانية وعاء يتضمن الخير والشر معًا، وهي لذلك تعاني الوسوسة الشيطانية المنسوبة لهذه النفس الانسانية وفق الآيات العظيمة "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ" [ق: 16[، "فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا..." [الأعراف: 20[ ، "الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ"، والآيات (ألهمها فجورها وتقواها) (هديناهُ النجدين) حيث يتجاور الخير والشر معا بمجرى الدم أو النفس فما السبيل؟ إلا خوض الصراع الانساني النفسي والعقلاني للتخلص من وسوسة الذات الشيطانية بالسوء، ولتحقيق جهاد النفس الذي حض عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ومحاولة الانتصار.
ابن الجوزي وتلبيس إبليس
يقول الإمام ابن الجوزي في كتابه (تلبيس ابليس) ص3 (إن أعظم النِعم على الانسان العقل لأنه الآلة في معرفة الإله سبحانه، والسبب الذي يتوصل به الى تصديق الرسل...)، والعقل متغير بالأزمان والظروف والثقافة والتطور، لذا تتغير "الآلة" -كما أسماها ابن الجوزي- أي يتغير منهج النظر والأنساق والبحث.
وفي كتابه يشير الى مكايد ومصايد ابليس كناية عن الشرور والفتن والتطرف والخروج عن الملّة، كما يظهر بوضوح بكتابه رغم الإشارات على ما تسول النفس للإنسان بصيغة (أتاه الشيطان) كمثال والمقصود هو في سياق فهم الآية (فألهمهما فجورها تقواها).
أن النفس الانسانية تمتلك مقوّم الخير ومقوم الشرمعًا كما تشير الآيات، وواجب الانسان هو خوض الصراع والجهاد للتخلص من كوامن الشر والوسوسة فيه وتحقيق توازنه (والسماء رفعها ووضع الميزان)، وليس المقصود في قول الامام ابن الجوزي عن (ابليس) أنه قوة خارجية (كائن خارجي) طاغية قسرية حيوية مسيطرة مما يفهم من لا يعقلون، فإبليس أو(الفجور في الآية)(يجري في الانسان مجرى الدم) كما قال ابليس للنبي موسى عليه السلام.
أما التلبيس كما يقول ابن الجوزي ذاته فهو: "اظهار الباطل في صورة الحق" (ص36)، أي ليس ما يظنه البعض لُبوسا للشيطان أو الجن أو الشبح لجسم الانسان!
الا ابن الجوزي بدلًا من أن يعدد الأسباب والعوامل الاجتماعية والسياسية والتاريخية والثقافية وراء ظهور التيارات عامة، والتيارات الاسلامية الأخرى، أو أهل البدع والأهواء والملل والنِحل...الخ، فإنه يذكر أخطاءهم ومزالقهم ويعتبرها من "تلبيس ابليس" عليهم، ويرد عليهم، أي أنه بغض النظر عن الأسباب ينتقل مباشرة (للموضوع والفكرة) أي حصول الباطل فوق الحق (تلبيس ابليس) فيوضحه وينقضه، وهذا أسلوب قديم له أصحابه، فجزى الله الإمام كل خير .
أي أنه يحاكي في كل كتابه مضامين النفس الإنسانية والتي تشتمل على الخير والشر والحق والباطل، وإن جعل للباطل كيانا قد يَفهم منه البعض كيانا خارجيًا وليس من ذات الشخص وفي ذات الشخص.
يتطور المفهوم السطحي عند المشعوذين ليقولوا ب"اللبس الفيزيائي" (كالثوب للجسد) بين الشيطان أو الجن الخارجي والإنسان مالم أفهمه بهذه الصورة أبدا في كتاب الإمام جزاه الله خيرا، وانما فهمته في إطار العقل الذي أكّد عليه منذ الصفحة الأولى وفي تعريفه للتلبيس إنه (إظهار الحق في صورة الباطل) وهذه قضية فكرية ودينية أوثقافية تحتاج لوعي وايمان وعقل ومناهج متجددة لردها كما فعل ابن الجوزي في رده حينه على أصحاب الملل والشبهات.
يقول ابن الجوزي ص116 (وقد لبس إبليس على أقوام من المحكمين في العلم والعمل من جهة أخرى، فحسّن لهم الكِبر بالعلم والحسد للنظير، والرياء لطلب الرياسة، فتارة يريهم أن هذا كالحق الواجب لهم، وتارة يقوى حب ذلك عندهم فلا يتركونه مع علمهم بأنه خطأ ...) ويضيف وقد (يدخل ابليس على هؤلاء بشبهة ظريفة فيقول طلبكم للرفعة ليس بتكبر لأنكم نواب الشرع ...).
إن طريقة البحث القديمة في العلوم النفسية والاجتماعية والانسانية عامة والمفردات المستخدمة والأنساق ومعانيها بنت بيئتها، ولكن تأتي أساليب النظر والتفكّر الحديثة المختلفة لتزيد وتطور وتعيد رسم الفكرة بشكلها الجديد وفق طرائف التفكير الجديدة والمستندة للعقل والفهم ما هو متغير.[3]
إن الرجل[4] يتصدى للباطل وفق ما يراه باطلًا، ويرد عليه بالصواب وفق ما يراه صوابًا، ولكن الخوف من أسلوب الكتاب هو إن كل صاحب رأي (مؤدلج) دون أن يفهم الأسباب والمقدمات يلجأ لإتهام للآخر بالشيطنة وإن ابليس هو من يحرك رأيه، فينقطع الحديث ويصبح بين حق وباطل وليس بين آراء هذا من جهة، ومن جهة أخرى يعمّق القوالب الفكرية الجامدة و"الأيديولوجيات" التي لا تقبل التجديد والتطور[5] حيث أن كثيرًا من آراء القدماء تحتاج لتنقيح وتطوير وتجديد، وأحيانا لنقض الكثير مما فيها، فلا أحد يؤخذ من كلامه مطلقًا، الا كلام الله سبحانه، وما نقله الرسول وحيّا.
أما ثالثًا فإن منهج التفكير أو طرق البحث القديمة أو حتى السياقات والمفردات تحتاج أيضا للتعاطي معها بتفهم لمستخدميها في زمانهم، دون اتباعها بالضرورة، لا سيما مع تطور المناهج والطرائق والأليات الجديدة، فلا نظل أسرى استنتاجات استندت لما تم تجاوزه من أساليب وأدوات.
ويبقى العقل كما قال ابن الجوزي بمقدمة كتابه هو الأساس، في تطور الفكر والبحث والمنهج ما يجب بناء عليه قراءة الكتب التراثية بمحبة من جهة، وبعين الفاحص من جهة أخرى وليس بمنطق التقليد والاتباع الأعمى الذي مآله الهاوية.
يقول المفتي في موقع "اسلام ويب" في الفتوى رقم (35281) (إن تلبّس الجنّي ببدن المصروع من الإنس أمرٌ ثابت بالكتاب والسنة واتفاق أئمة أهل السنة)! وهذا فهم لا نقره، للحديث القائل (أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) والذي نعتقد أن حقيقته السامية والمقصودة تدلل على وجود الشروالباطل والفجور في ذات النفس الانسانية في الصراع الدائم مع المقابل أي مع الخير والمحبة.
وكما هو الحال في تفسير البعض للآية الكريمة (واذكر عبدنا أيوب اذ نادى ربه اني مسّني الشيطان) حيث يصورها البعض الجاهل بمعنى (اقتران الشيطان كجسد خارجي بجسد الإنسان!) حيث يقول أحد أصحاب هذا الرأي في كتاب (قطر المرجان في علاج العين والسحر والجان) (أن الإنسان المقترن به شيطان هو في الحقيقة إنسان مزدوج الشخصية يلاحظ عليه تصرفات متناقضة ...)؟! ثم يعدّد أعراض ما يسميه (المسّ) في اليقظة! ما هي في الحقيقة أعراض أو أمراض نفسية أو عقلية أو حتى أعراض جسدية أصبحت معروفة اليوم مثل الضيق في الصدر والنسيان والشرود وكراهية العمل...الخ.
الشيخ ابن عاشور والمسّ
وللتعرض لفكرة (المسّ) المتداولة عند المشعوذين وأصحاب الخزعبلات والتدليس على الإسلام العظيم بمنطق لبوس الجن أو الشيطان! دعونا نقرأ للعالم الكبير الشيخ الطاهر بن عاشور[6] في تفسيره القرآن (التحرير والتنوير) إذ يقول في الآية الكريمة : (﴿واذْكُرْ عَبْدَنا أيُّوبَ إذْ نادى رَبَّهُ أنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وعَذابٍ﴾: ظاهِرُ إسْنادِ المَسِّ بِالنُّصْبِ والعَذابِ إلى الشَّيْطانِ أنَّ الشَّيْطانَ مَسَّ أيُّوبَ بِهِما، أيْ: أصابَهُ بِهِما حَقِيقَةً مَعَ أنَّ النُّصْبَ والعَذابَ هُما الماسّانِ أيُّوبَ، فَفي سُورَةِ الأنْبِياءِ أنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ؛ فَأسْنَدَ المَسَّ إلى الضُّرِّ، والضُّرُّ هو النُّصْبُ والعَذابُ. وتَرَدَّدَتْ أفْهامُ المُفَسِّرِينَ في مَعْنى إسْنادِ المَسِّ بِالنُّصْبِ والعَذابِ إلى الشَّيْطانِ، فَإنَّ الشَّيْطانَ لا تَأْثِيرَ لَهُ في بَنِي آدَمَ بِغَيْرِ الوَسْوَسَةِ كَما هو مُقَرَّرٌ مِن مُكَرَّرِ آياتِ القُرْآنِ ولَيْسَ النُّصْبُ والعَذابُ مِنَ الوَسْوَسَةِ ولا مِن آثارِها).
مضيفا بتوضيح أكثر:(مَسَّنِي بِوَسْواسٍ سَبَبُهُ نُصْبٌ وعَذابٌ، فَجَعَلَ الشَّيْطانُ يُوَسْوِسُ إلى أيُّوبَ بِتَعْظِيمِ النُّصْبِ والعَذابِ عِنْدَهُ ويُلْقِي إلَيْهِ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِذَلِكَ العَذابِ لِيُلْقِيَ في نَفْسِ أيُّوبَ سُوءَ الظَّنِّ بِاللَّهِ أوِ السُّخْطَ مِن ذَلِكَ.)
يقول الشيخ طنطاوي[7] في تفسيره الوسيط، وبشكل جميل : (أن أيوب نسب ما مسّه من نصب وعذاب إلى الشيطان تأدبا منه مع ربه - عز وجل - حيث أبى أن ينسب الشر إليه - سبحانه -، وإن كان الكل من خلق الله - تعالى -) .
وذكر القرطبي مما ذكر من أقوال: (قد قيل في معنى : أني مسني الشيطان بنصب وعذاب أي: ما يلحقه من وسوسته لا غير)[8] .
ومن هنا يجب أن نقرر أن للشيطان الوسوسة فقط لا غير، وأن النفس الانسانية بتقواها وفجورها كما أشار القرآن الكريم هي مجال الجهاد والحرث والكفاح الذاتي، والصراع الذي يجب أن نخوضه بالعلم والعقل والإيمان للوصول للتوازن والانتصار، فلا خزعبلات ولا لبس جسدي ولا خرافات ولا يحزنون.
الحواشي
[1] من مضمون مقولات للمفكر العربي الاسلامي عبدالجبار الرفاعي في نقد علم الكلام والتراث.
[2] أنظر كيف تطورت نظرة وادوات ومناهج العلماء المفسرين لأيات القرآن الكريم في كتاب الشيخ الفاضل بن عاشور المعنون: التفسير ورجاله.
[3] عندما يتعرض المفكرون الجدد للتيارات الاسلامية المختلفة يسمونها بما يتفق مع رؤيتهم العقلية ومنهج بحثهم المتطور والمتجدد فيسميها مصطفى الشكعة المذاهب في كتابه (اسلام بلا مذاهب) ويسميها محمد عمارة التيارات في كتابه (تيارات الفكر الاسلامي)، ويسميها محمد سليم العوا المدارس الفكرية، بينما سماهم أبوالحسن الأشعري الاسلاميين في كتابه (مقالات الاسلاميين واختلاف المصلين) وكان عبدالقاهر البغدادي قديما قد أسماها الفِرق، والمِلل والنحل.
[4] يرد ابن الجوزي بكتابه على ما أسماه: التلبيس بمعنى إظهار الباطل في صورة الحق، في أفكار الانحراف لدى أصحاب الديانات وفي العقائد ولدى الزهاد والصوفية والسفسطائيين والفلاسفة والثنوية والبراهمة والمعتزلة بل ولدى العلماء والعوام، ولدى الوثنيين...الخ، ولم يكن كتابه تعامل مع جن اوذات إبليس وخلافه كما يظن المشعوذون.
[5] من المفترض علميا وعقليا ودينيا ألا تكون المعارف -أي معارف- متعالية على النقد والمراجعة، فلا فكرة أو شخص مقدس، واهمية إشاعة ثقافة الاختلاف مطلب وضرورة بين أبناء الدين الواحد، وبين أبناء الانسانية. وليس التعجيل بالحكم بالكفر على المخالف واستباحة دمه لمجرد مخالفة في فهم جزئية في أحدى المسائل الدينية أو العقدية
[6] محمد الطاهر بن عاشور (1879-1973) عالم وفقيه تونسي، أسرته منحدرة من الأندلس ترجع أصولها إلى أشراف المغرب الأدارسة تعلم بجامع الزيتونة ثم أصبح من كبار أساتذته، وله عديد المؤلفات، منها تفسير القرآن الكريم المعنون "تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد"، واختصر هو نفسه هذا الاسم تحت عنوان "تفسير التحرير والتنوير".
[7] الشيخ محمد سيد طنطاوي في التفسير الوسيط للقرآن الكريم، دار نهضة مصر للطباعة،القاهرة.
[8] ولمن يشاء المراجعة في الموقع للرابط المرفقhttp://www.quran7m.com/searchResults/038041.html
بكر أبوبكر
كاتب وأديب عربي فلسطيني
في الفكر والدراسات العربية والاسلامية
Baker AbuBaker
Palestinian Author & writer
Arab Thinker
www.bakerabubaker.info
اشترك subscribe في قناتي على "يوتيوب"
https://www.youtube.com/channel/UC00J1t8kNoOIwhTRGi-VJvg?view_as=subscriber
ليست هناك تعليقات